|
الاستغلال الأمثل لنعمة الوقت
![]() |
المقدِّمة:
الحمد لله في كل وقت وحين، وأصلي وأسلّم
على النبيّ محمد r الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والنفس المصطفاة، وعلى آله
الطاهرين وأصحابه الغر الميامين، ومن سار على دربهم على مرّ الأيام وطول السّنين
إلى يوم الديّن.
نعلم بأن الله تعالى خلقنا لتحقيق غاية
الحياة، ألا وهي عبادته سبحانه وتعالى، ولقد اختار الإنسان من بين سائر المخلوقات
لأداء هذه المهمة، حيث كرّمه على جميع مخلوقاته بالعقل والتكليف. لذا كان لزاماً
على كل إنسان
أن يعطي عقله حظه من التفكر والتدبر في ملكوت الله، فيستشعر عظمة
الله في كل شأن من الشئون، وكان من رحمة الله تعالى على الإنسان – المأمور
بالعبادة – أن وقّت له أوقات العبادات، إن كانت في العمر، أو في السنة، أو متفرقة
بين أوقات اليوم والليلة، مفصلة تفصيلاً واضحاً وميسراً.
ولما كان عمر الإنسان في هذه الدنيا محدداً،
وذلك منذ خروجه من بطن أمه حتى دخوله بطن الأرض، لذا لزمه أن يحرص على استثمار
ساعات ودقائق عمره هذه بحيث لا تضيع أي لحظة هدراً، ليعيش في هذه الحياة فراغاً،
لأن وقت الإنسان أغلى ثروة يمتلكها، ولا نقول الوقت من ذهب كما يقول الماديون
الذين لا يقيسون الأشياء إلاّ بمثلها، فالوقت أغلى من الذهب ومن كل شيء لأنه هو
الحياة، وما دونها يمكن استرداده وزيادته ولكن الحياة إذا ضاعت فهيهات أن تعود!
ولما كان الوقت بهذه المنزلة، وبه ينظم المسلم عباداته، ويرتب شئون الحياة قاطبة،
بل ويحفظ به الأحداث والسيّر، وتدوين أحداث التاريخ به، كان اهتمامي بالوقت الذي
دفعني لكتابة هذه السطور.
القول في مفهوم الوقت:
تعريف
الوقت:
الوقت مقدار من الزمان، ويجمع على أوقات
ووقوت، (وقّته): أي جعل له وقتاً يُفعل فيه، ويقال: وقّت الله الصلاة: جعل لها
وقتاً، أي حدد لها وقتاً، وبيّن له مقدار المدة. و (الميقات) الوقت المضروب للفعل،
والموعد الذي جعل له وقت، ويجمع على مواقيت، ومنه مواقيت الحاج لمواضع إحرامهم.(1)
وقيل الوقت مأخوذ من التوقيت وهو
التحديد. والوقت أخص من الزمان، لأن الزمان مدة حركة الفلك، وسٌمي الزمان وقتاً
لما حدد بفعل معين، فكل وقت زمان وليس كل زمان وقت.(2)
كما جاء في موضع آخر الزمان: الوقت
قليله وكثيره، ومدة الدنيا كلها، يقال السنة أربعة أزمنة: أقسام وفصول (ج) أزمنة.(3)
غير أننا نقصد بالدهر مدة الحياة كلها،
والزمان الطويل، والزمان قلّ أو كثر.(1) وقال ابن الأثير: الزمان عبارة عن ساعات
الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل والقصير منهما، والعرب تقول: أتيتك زمان الصّرام،
وزمان الحرام يعنى به زمان قطع ثمر النخيل واجتناؤه. وكذلك أتيتك أزمان الحجاج
أمير. ويجمعون الزمان، يريدون بذلك أن كل وقت من أوقات إمارته من الأزمنة.(2)
أما الفراغ فمقصود به المقدار الزمّني
من اليوم الذي يكون فيه الإنسان عاطلاً بلا عمل يؤديه وواجب يقوم به، وقد يستعار
الفراغ للمساحات فنقول: في الورقة فراغ، وفي الخريطة فراغ...
ولما علمنا أن الوقت هو المقدار من
الزمن المعين، وأنّ الزمان مدة مقسومة إلى شهور وفصول وسنين وأيام وساعات، لزمنا
أن نعرف شيئاً ولو يسيراً عن حدة قياس الزمان من سنين وشهور وأيام، إذا أنها
تعيننا على فهم الأوقات وكيفية تنظيمها، ومدى الاستفادة منها واستثمارها في وجوه
الخير.
فإذا سردنا في التفصيل تنازلياً وجدنا
أن القرن يطلق ويراد به مقدار مائة سنة، والسنة أثنا عشر شهراً، والشهر ثلاثون
يوماً، أو أربعة أسابيع، والأسبوع سبعة أيام، واليوم أربع وعشرون ساعة، والساعة
ستون دقيقة، والدقيقة ستون ثانية. وهذا تقسيمنا الحالي وفق حياتنا اليومية، غير أن
التقسيم الزمني لفترات معينة يرجع إلى عهود بعيدة، وذلك منذ بدأ الإنسان الأول
يعتمد على الزراعة مصدراً رئيسياً لقوته، حيث قسّم السنة إلى فصول معينة، وقسّم
بموجبها غرس المحاصيل على زمانها.
أما اليوم – المدة التي يتعاقب فيها
الليل والنهار مرة واحدة – يعتبر أقدم توقيت عرفة الإنسان، ثم الفصول وتقسيمها
المناخي: شتاء، صيف، خريف، ربيع. وكان الراعي في المناطق الدافئة يعتمد على القمر
منذ ظهوره دقيقاً رفيعاً حتى يعظم ثم يعود، كما بدأ فترة من الزمن ينظم حياته على
ذلك. ولما كانت الشمس على اختلاف مع القمر، وأنها ليست لها وجوه وأطوار مختلفة،
اعتبرت مقسماً للزمن، لا سيما وأن السنة الشمسية أكبر من السنة القمرية، نخلص إلى
أن العرب في حياتهم كانت عندهم سنة قمرية بدليل أسماء الشهور العربية: رمضان، ربيع
أول، جماد أول...(1)
ويعتبر الشهر وحدة زمنية هامة منذ بدء
التوقيت وإلى يومنا هذا، ونلاحظ أن الحياة بأسرها مرتبطة بالشهور تدور معها حيث
دارت، فعبادات الإسلام مقيدة بالأشهر كالحج والاعتمار والصيام، وتنظيم الشهور
المباركة كشهر رجب والأشهر الحُرم، حيث لعب الشهر دوراً بارزاً في تنظيمها
وأدائها.
أهميّة
الوقت في حياتنا:
للوقت مكانة عظيمة في الإسلام حيث
يتخلّل أركان الإسلام، فمن يريد اعتناق الإسلام لا بدّ له من النطق بكلمة التوحيد،
كما يجب أن يكثر من ذكرها في سائر أوقاته، إذ بها يتجدّد الإيمان، قال الرسول r: "جددوا إيمانكم قيل يا رسول الله: وكيف نجدد إيماننا؟ قال:
أكثروا من قول لا إله إلاّ الله".(1)
والصلاة ركن الإسلام الثاني وعموده، يجب
المحافظة عليها في أوقاتها المحددة حيث بيّن الشارع أوقاتها، قال تعالي:{إِنَّ الصَّلاَةَ
كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} (سورة النساء: 103)
كما قال: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ
طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ} (سورة هود: 114).
وأبان أن هناك صلاة وقتها ميل الشمس أي دلوكها، وأخرى في اجتماع الليل مع الظلمة
أي الغسق فقال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} (سورة الإسراء: 78).
والمراد هنا وقت صلاة الظهر والعصر، ووقت صلاة المغرب والعشاء، وقرآن الفجر يعنى
صلاة الفجر.
وقال رسول الله r: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون
وقت صلاة العصر وصلاة الفجر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم:
كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون..."(2)
ووقت إخراج الزكاة حولان الحول على كل
من ملك نعماً أو ذهباً أو فضة أو مالاً أو عروض تجارة أو زرع مع توفر شروطها.
وصيام رمضان يثبت إما بإتمام شعبان
ثلاثين يوماً، أو برؤية هلال رمضان، ويبدأ المسلم في صيامه بالنية قبل طلوع الفجر
إلى غروب الشمس، ورمضان وقت نزول القرآن، وفيه ليلة هي خير من ألف شهر، ومن نفحات
رمضان صلاة التراويح ووقتها بعد صلاة العشاء، وفيه قيام الليل والاعتكاف في العشرة
الأخيرة منه. كما يجب على الصائم ترقب أوقات الإجابة في صيامه، وعند تناول إفطاره،
فعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر" والإمام
العادل، ودعوة المظلوم".(1)
والحج يعنى شرعاً أعمال مخصوصة تؤدى في
زمن مخصوص على وجه مخصوص. قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}،
(سورة
البقرة: 197)، يبدأ وقت الحج أول شهر شوال حتى قبيل
طلوع فجر يوم النحر، ووقت عرفة من زوال شمس يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر، ووقت
طواف الإفاضة من يوم عيد النحر إلى آخر شهر ذي الحجة، ووقت الرمي اليوم الأول
والثاني والثالث والرابع من أيام العيد.(2) أما العمرة فتؤدى في كل وقت من السنة ما عدا
يوم عرفة ويوم العيد وأيام التشريق، ولمن كان محرماً حتى ينتهي من أعمال الحج.
وكذا
فإن الوقت يتحكم في سائر ضروب العبادات، فكلها تسير بوقود الوقت، وجُلّ سلوكيات
الإنسان وحركاته لها حدود وأطر زمانية، وإن الله تعالي إذا أراد بيان أهمية شيء ما
قرنه إليه فأقسم به، حيث أقسم الله تعالي بالوقت في صوره المتعددة ولا يقسم إلاّ
بعظائم مخلوقاته، فأقسم بالفجر وليال عشر، وأقسم بالضحى والليل إذا سجى، وأقسم
بالنهار والعصر ذاك الوقت الأصيل، وفي ذلك إشارة لأهمية الوقت حتى يمكن الاستفادة
التامة منه.
عمر
الإنسان شريط يدور ويتكلَّم:
الوقت يمثل عمر الإنسان في الدنيا،
ومقدار حركاته وسكناته على وجه الأرض، وهذا العمر – مهما طال وامتّد – لا بد أن
ينتهي لحظة ما، وهو قصير ولا يقاس ببعض أعمار الحيوانات كالسلحفاء والغراب
والثعابين، تلك التي تعمر مئات السنين، وهل تدري كم عمر جبريل عليه السلام؟ فهو
خليل النبيّ r وضيفه سأله يوماً عن عمره فقال: "لا أدري على وجه التحديد
غير أن كوكباً يظهر في الحجاب الرابع بعد كل سبعين ألف سنة مرة، وقد رأيته اثنين
وسبعين ألف مرة.(1) فكم يا ترى يكون عمر
الإنسان قياساً بأعمار تلك المعمرات؟ فمهما عاش الإنسان في هذه الدنيا لا شك أن
عمره سينكمش وينتهي بالموت، ولو سلمنا جدلاً بأن عمر الإنسان يتراوح بين الستين
والخمسين، بل أفرض أن عمره ستين سنة في متوسطه، فإننا نجد أن ربعه طفولة، ونصفه
نوم وراحة وقيلولة، ويضيع طيش الشباب ببعضه، فحاصل ما يبقي له سدس عمره، وهذا
السدس جزء يسير يؤدى فيه ضروريات حياته الخاصة من مأكل ومشرب، إذاً ماذا يبقي له
من عمره للقيام بتكاليف العبادة والسعي والكسب؟! ولله در من قال:
إذا أكملت للمرء ستين حجة لم
يحظ من الستين: إلاّ بسدسها
ألم تر أن النصف بالنوم حاصل وتذهب أوقات المقيل بخمسهـا
وتذهب أوقات الهموم بحصـة وأوقات
أوجــاع يميت بمسها
فحاصل ما يبقي له سدس عمره إذا صدقته النفس عن علم حدسها
والوقت يجرى بالإنسان إلى المصير
المنتظر والأجل المحتوم، يجرى بسرعة خاطفة وحركة دوارة، الليل والنهار يتراكضان
تراكض البريد يقرّبان بعيد ويفنيان كل جديد! ويجرى بنا الوقت في اتجاه واحد، حيث
يقودنا من الدار الفانية إلى الآخرة الباقية، ومن أرض العمل إلى أرض الحساب:
نهار يمر وليل يكر ونجم يغور ونجم يرى
فعمر الإنسان طاقة محدودة مقدّرة، فهو
كالشريط الذي بدأ يدور، إذ لا بد أن يصل إلى نهايته، ومن عجب فإن الأرض والأيام
والليالي تتكلم شاهدة على الإنسان بما عمل عليها وبما يتناجي فيها، فهي تتكلم
وتنادي، وترغب تارة وترهب أخرى، قال رسول الله r: "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلاّ ينادي فيه: يا ابن آدم
أن خلق جديد، وأنا فيما تعمل عليك غداً شهيد، فأعمل فيّ خيراً أشهد لك به غداً،
فإني لوقت مضيت لم ترن أبداً ويقول الليل مثل ذلك".(1) وقال أبو عمران الجوني: (ما من ليلة
تأتي إلاّ تنادي: أعلموا فيّ ما استطعتم من خير، فلن أرجع إليكم إلى يوم القيامة).(2)
من
خصائص الوقت ومميزاته:
1. أي
لحظة تمضى من الوقت لا يمكن استرجاعها، وهذا ما نطقت به الليالي وتكلمت، وشهدت به
على الإنسان وحذرت، فهي تمشي في اتجاه واحد ماضية بنا إلى المصير المنتظر.
2. الوقت
كالوعاء والخزانة الحافظة للأشياء، من خصائصه أنه يحفظ الأحداث ويطبع كل سلوك يصدر
من الإنسان على شرائطه، وقد أشار حديث النبي r إلى ذلك: "إنّ هذا الليل والنهار خزانتان فانظروا ما تصنعون
فيها".(1)
3. الوقت
لا يملكه الإنسان، فإن كان للإنسان ملكية على ماله وعقاره، وبيده حرية التصرف في
مدخراته واستثماراته، لكنه لا يمتلك من الوقت دقيقة ولا ثانية، ولا يمكنه التصرف
في مجريات عمره فيزيد أو ينقص منه، فتلك اللحظات التي تقضيها على وجه الأرض منذ
خروجنا من بطون أمهاتنا حتى ندخل بطن الأرض هي حياتنا التي لا نملكها، فقيمة
الوقت، قيمة الحياة بأسرها لأن الوقت يمثل البعد الزمني للحياة.
4. الوقت
مجال للاستثمار النافع، وعلى الإنسان العاقل استغلال نعمة الوقت فيما يعود عليه
بالصلاح والفلاح، فيصرف كل طاقات الوقت في صالح الأعمال وأمهات الطاعات، بحيث لا
تحتسب أي لحظة إلاّ في ميزان حسناته، عملاً بمنهج النبي r الذي كان من أخلاقه: "لا يمض له وقت في غير عمل لله تعالي أو
فيما لا بدّ منه من صلاح نفسه".(2) ومن شمائله r: "كان لا يقوم ولا يجلس إلاّ على ذكر الله عز وجل".(3)
ومن هذه الخصائص ندرك بأن الوقت نعمة
عظيمة لا يمكن أن تقاس بمقاييس المادة كما يقال: [الوقت من ذهب]. وفي نظري أن هذه
النظرية تحتاج إلى تصويب، إذ أن الوقت أغلى من الذهب ولا وجه للمقارنة، ويمكن أن
تصدر هذه العبارة من الماديين الذين لا يقيسون الأشياء إلاّ بمثلها، ولكن الوقت –
من منظور إسلامي – أغلى شيء في الوجود لأن الوقت هو الحياة، وحياة الإنسان لا تقاس
بمقاييس المادة، فهي أعز ما يملك الإنسان، ومن ناحية يمكننا إن فقدنا الذهب أن
نعَّوض أضعاف أضعافه، أما الوقت الذاهب هيهات أن يعوض ما قد مضى منه! والوقت يمدنا
بالمال والذهب البّراق، ولكن الذهب والمال لا يمكن أن يأتينا بالوقت!!
فإن كان للوقت هذه الخصائص وتلك
المميزات، فإنه قد غاب عنّا ذاك النعيم وعشنا أوقاتنا فراغ وعطال وبطال!!
وجلسنا نهدر في نعمة الوقت ونبدده ونحن
لا ندري! ونسينا أننا خلقنا لأداء رسالة، وتبليغ أمانة، وبذا فلا وجود للفراغ في
حياتنا، حيث يجب أن نقسم وقتنا ونوزعه على واجباتنا، إذ أن واجبات المسلم في يوم
أكثر من أوقاته!! ومن كان حاله كذلك لا ينبغي أن يعيش لحظة فراغ، وإلاّ احتسب ذلك
على ضياع وخصم أوقات كثيرة هي على حساب الواجبات التي أهدرت في أوقات الفراغ!
فالصلاة بأنواعها تحتاج إلى وقت خلال اليوم لأدائها، والأعمال والحرف التي نكتسب من
ورائها في حاجة إلى وقت، وما بين ذلك الدعاء والإخلاص والذكر وصلة الأرحام، كلها
تسير بوقود الوقت، فمتى فني وقودنا توقف المسير وسط لجة الحياة.
وأننا نجد بيننا من يعتبر الفراغ خسارة
يجب التخلص منه! إنهم يقتلون الوقت – على حد زعمهم – ويتناسون أن الله قلّب لنا
الليل والنهار للبطش والعبادة، حيث خص النهار بالمعاش والليل للراحة والمنام، غير
أننا استبدلنا الذي هو خير بالأدنى، وجعلنا الليل مسرحاً للجرائم والمعاصي!
وأهدرنا بذلك نعمة عظيمة، ففي الليل وفي ساعات السحر والاستغفار والدعاء، تحاك
حينذاك أبشع الجرائم، وتنفذ الكبائر من الذنوب، حتى سرى في كلامنا العامي بالنهار
يسبح وبالليل يذبح!!
المحاسبة
على نعمة الوقت:
ولا بد أن نعي أننا محاسبون بين يدي
الله تعالي عن أوقاتنا. قال رسول الله r: "لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره
فيما أفناه؟ وعن جسده فيما أبلاه؟ وعن علمه ما عمل فيه؟ وعن ماله من أين أكتسبه؟
وفيما أنفقه؟".(1) ومن
هنا ندرك أنه ما من لحظة من العمر تفنى لم نذكر فيها ربنا إلاّ وندمنا عليها غداً
عند لقاء ربنا، وأن أهل الجنة – وهم يتقلبون في النعماء – يتذكرون تلك الساعات
التي مرت من حياتهم دون أن يذكروا فيها الله، ولو أنهم أحسنوا استثمارها في طاعة
الله تعالي لكانت رفعة لهم في المنازل والدرجات، وتقريباً إلى ربهم ورضاء.
وتبدو قيمة الوقت عند سكرات الموت
ولحظات الوفاة، فيلاحظ على أولئك الذين أضاعوا أوقاتهم سدى، أنهم ينتبهون في تلك
الساعة، حيث يتمثل أمامهم شريط لأعمالهم دقيقة بدقيقة ولحظة بلحظة، فيستقلون
رصيدهم من الحسنات وقد نفذ العمر وجاءت ساعة المثول بين يدي الله والحساب وهول
الموقف، فيلتمسون من ربهم الرجاء والمدد في العمر قليلاً حتى يتزودوا بالأعمال
الصالحة، قال تعالي: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي
أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا
وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (سورة المؤمنون: 99 –
100).
وكان سلفنا الصالح أكثر انتباهاً لتلك
المواقف وأمثالها، فنجدهم في حالة حساب شديد مع نفوسهم لتجاوز كل المخاوف
المرتقبة، ومن أولئك الإمام الشافعي t الذي أعدّ لنفسه وِرْدَ محاسبة عند مساء كل يوم، فيقف مع نفسه
معاتباً ولائماً حيث يقول:
إذا
هجع النّوام أسـبلت عبرتي وردّدت
بيتاً هو من ألطف الشعر
فنحن في دنيانا كركب لجة نظل
قعوداً والزمان بنا يجــرى
أليس من الخسران أن لياليـاً تمر بلا نفع وتحسب من عمري!!
وقد زخرت السنة بكثير من التنبيهات
النبوية حول الاستفادة من الأوقات وتخفيف شدة الحساب ومن ذلك: "نعمتان من نعم
الله مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ".(1) وقال رسول الله r: "أغتنم خمساً قبل خمس..."(2) وعدّ منها فراغك قبل شغلك.
ومن هنا ندرك بأن هذه الحياة ما هي إلا
أعمار، وما الأعمار إلاّ أعوام، وما الأعوام إلا شهور، وما الشهور إلاّ أيام وما
الأيام إلاّ ساعات، وما الساعات إلاّ دقائق، وما الدقائق إلا ثواني تحصيها ملائكة
كرام!! وكم هو رائع وجميل إن كانت لنا من تفاصيل هذا العمر ودقائقه ساعات، ساعة
نناجي فيها ربنا وندعوه بما نريد، وساعة حساب وجرد مع النفس على ما صدر في عرض
اليوم من سلوك وخواطر، وساعة هي للتفكر والتدبر في صنع الله عزّ وجلّ فإن التفكر أعلى
مقامات الذكر، وساعة هي لأمورنا الخاصة من مأكل ومشرب حيث لا تتم العبادة إلاّ
بالتقوى لها بالطعام والشراب.
كيف
نستثمر أوقاتنا؟
كيف ندير الوقت من منظور إسلامي؟ فيم
نستقل أوقاتنا؟ ما هي البرامج الاستراتيجية في كيفية استغلال الوقت؟ بأي الخطط
يمكن الاستفادة التامة من دقائق ولحظات أعمارنا البسيطة؟. على كل مسلم أن يسارع في
الخيرات ويسابق إلى تحصيل صالح الأعمال، وذلك قبل نزول العوائق وحلول الصوارف،
ولهذا فقد وضع الإسلام للإجابة على تلك التساؤلات برامج خاصة تهتم بتنظيم الوقت
وفق أسس وضوابط محددة (برمجة)، حيث يكون للمسلم في يومه جدول رقابي زمني، فلا ينام
في المساء حتى يضع وصيته تحت رأسه لربما يكون في نومه وفاة نفسه، فالله هو الذي
يتوفى الأنفس حين موتها، وتكون له برمجة عمرية، حيث يحدد برنامج لأداء فريضة الحج،
ويجعل من رمضان محطة للتزود وفرصة لتزكية النفس وإصلاحها، وتدريب للروح وترقيتها.
وتكون لنا في النبي r الأسوة في إعداد برمجة الوقت، فكان منهجه في استغلال الأوقات
مثلاً:
-
كان إذا جاء رمضان يصوم
نهاره ويقوم ليله.
-
كان يجتهد في العشر
الأواخر منه ويشد مئزره ويوقظ أهله.
-
كان جبريل عليه
السلام يراجع معه القرآن.
واستثمار الوقت يعنى أن تكون لنا
أوقاتاً عامرة بالصلاة والخشوع فيها، وأن نجعل للقرآن حصة شائقة من أورادنا، كما
نحرص أن يكون ذكر الله أنس قلوبنا وربيع نفوسنا، ويكون اللسان رطباً بذكر الله،
قال تعالي: {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ}، (سورة البقرة: 152)،
لأن أفضل الأوقات للعبد حال ذكره ربه تعالي واشتغاله بمؤانسته، والمراد بذلك ضبط
أوقات بمعيار الأذكار، وقد كان هذا منهج النبي r حيث يقول: "اللهم أجعل صمتي تفكراً، ونظري عبراً، وأجعل
منطقي ذكراً".(1) روى
مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: "سبق المفردون، قالوا وما المفردون يا رسول الله؟ قال:
الذاكرون الله كثيراً والذاكرات".(2)
والمراد تنظيم الأوقات وبرمجة الأذكار
في أدبار الصلوات، وغدواً وعشياً، وفي المضاجع، وعند الاستيقاظ من النوم، في
حركاتنا وسكناتنا وحتى ونحن نباشر الأعمال نجمع بين الذكر والعمل. كان نبي الله
إدريس u حائكاً، أول من حاك ثوباً، فكان إذا غرز الإبرة
قال: سبحان الله، وإذا أخرجها قال: سبحان الله، فكان يمسى حين يمسي ولا يمسي أحد
ذكر الله مثله. لذلك ولكثرة ما ذكر الله أكرمه الله تعالي ورفعه مكانا عليّاً
عنده، فقال تعالي: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ
صِدِّيقاً نَّبِيّاً وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} (سورة مريم: 56 – 57)،
فلما جمع في عبادته بين العمل والذكر جمع الله له مرتبة الصديقين والنبوة.
واستثمار الوقت يعنى ضرورة تقسيم الوقت
وتنظيم أعمال المسلم في يومه بحيث لا تمضى أي لحظة بدون فائدة، وذلك بأن يجعل من
كل حركة وسكنة عبادة، فيكون نومه وأكله من عباداته الخاصة وله فيها أجراً محتسباً
بدليل ما جاء في حديث رسول الله r: "في بضع أحدكم صدقة....".(1) ومن ثم تكون له حصة للراحة والترويج،
ذلك لأن النفس تسأم والجسد يكل بطول العمل، عملاً بسنة النبي r القائل: "روِّحوا عن أنفسكم ساعة فساعة فإن القلب إذا أكره
عمي".(2)
مع
مراعاة الأخذ بما خف من ضروب العبادات وأعمالها، بحيث لا يثقل كاهله بكثرة الأوراد
وطول القيام والتهجد بحيث يصبح في غده معلولاً لا يقوى على تجويد مهنته وإنجاز
عمله، بقدر ما يحرص على توفر عنصر الإخلاص واستشعار الخشوع بين يدي ما يقول، فإنه r ما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما.(3) وعن عائشة رضي الله عنها قالت:
"قال رسول الله r: "أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ".(4) إذاً لا بد – ونحن نستثمر الأوقات أن
نسعى إلى تحقيق التوازن بين حجم الأعمال وسعة الوقت حتى يمكننا استيعاب مختلف
الأصناف من الأعمال سائر اليوم.
أفضل
طريقة لاستثمار الدقيقة:
إن كان الوقت هو عمر الإنسان الذي هو
أعز ما يملك، وجب العمل على صيانته فلا يضاع أو يهمل بأي صورة كانت، بل يلزم أن
نجعل من كل جزئيه منه زيادة لنا في العمر بقدر ما نؤدى فيه من أعمال أداء وعطاء،
أو بزيادة رصيدنا الأخروي عند الله بوجه من وجوه العبادة وصورها.
لذا فإنا نخلص في ختام هذا البحث إلى
أهم نتيجة فيه وهي الإشارة إلى أنجح الأعمال وأعظمها عند الله أجراً تلك التي يمكن
إنجازها في دقيقة زمنية واحدة، وسوف نعتمد على الأذكار ذات العدد تلك التي سميت
بين أحاديث النبي بجوامع الكلم، ولأن النبي r قد حث على التنافس في الذكر في أحاديث كثيرة منها: روى مسلم عن
أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة لم
يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به ألاّ أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه".(1)
1.
في دقيقة واحدة يمكن
قراءة سورة الفاتحة (7) مرات، وتلاوتها مرة تعدل 1400 حسنة وسبع مرات تعادل 9800
حسنة.
2.
في دقيقة واحدة يمكن
قراءة سورة الإخلاص (20) مرة، ولأن من قرأها مرة فكأنما قرأ ثلث القرآن، فمن قرأها
عشرين مرة كأن من قرأ القرآن سبع مرات.
3. في
دقيقة واحدة يمكن أن تقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير (20) مرة، ومن قال ذلك فله من الثواب بما يعادل عتق ثمان رقاب
في سبيل الله من ولد إسماعيل.(1)
4. في
دقيقة واحدة يمكن ترديد: سبحان الله وبحمده (100 مرة) ومن قال ذلك غرست له نخلة في
الجنة.(2)
أي في دقيقة واحد يمكن تمتلك بستان في الجنة بسعة مئة نخلة مثمرة بثمار الجنة.
5. في
دقيقة واحدة يمكن أن نقول: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم (50) مرة وهما كلمتان خفيفتان على
اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن.(3)
6. في
دقيقة واحدة يمكن أن (تحوْقل).(4) أكثر من (40) مرة، وهي كنز من كنوز الجنة،
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري t قال: قال لي النبي r: ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال: لا
حول ولا قوة إلاّ بالله.(5)
7. في
دقيقة واحدة يمكن أن (تهللِّ) فتقول: لا إله إلاّ الله (50) مرة، وهي أفضل الذكر
كما جاء في حديث رسول الله r: "أفضل الذكر لا إله إلاّ الله".(6)
ومن كان آخر كلامه لا إله الله دخل الجنة.
8. في
دقيقة واحدة يمكنك أن تستغفر الله أكثر من (100) مرة، بصيغة: استغفر الله، وتنال
بذلك فضل الاستغفار، وسبب المغفرة ودخول الجنة، ورفع البلايا وتيسير الأمور، قال
رسول الله r: "من لزم الاستغفار جعل الله له من كل ضيق مخرجاً ومن كل همّ
فرجا ورزقه من حيث لا يحتسب".(1) ولو
تتبعت سورة هود تجد كيف قرن الله الاستغفار بالنتيجة بعده في أكثر من موضع من آيات
السورة وذلك دلالة على عظيم ثواب الاستغفار.
9. في
دقيقة واحدة تستطيع أن تقول: سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه
ومداد كلماته أكثر من (15) مرة، وهي من جوامع كلمه r، وتعادل أضعافاً مضاعفة من أجور التسبيح.(2)
10. في
دقيقة يمكنك أن تؤدى عبارة عظيمة الفضل والمثوبة، فتصلى على النبي r بصيغة: r (50) مرة، فيصلى بها عليك الله خمسمائة مرة، كما جاء في صحيح
مسلم: عن أبي هريرة t أن رسول الله r قال: من صلى علىّ واحدة صلى الله عليه عشراً.(3)
وبصورة جامعة يمكن أن يعيش المسلم وقته
كله مع الله من خلال تفكره في خلق السموات والأرض، وشكره له تعالى بما يكسبه
المحبة لله والخوف منه والرجاء، ويكون نشيده دوماً ذكر الله تعالى على أي حالة كان
ماشياً أو جالساً أو متكئاً على فراشه. مع ملاحظة أننا نعيش اليوم في عصر الانفجار
المعرفي، حيث يستطيع كل مسلم أن يهتم بأمر أخيه المسلم من خلال مطالعة أخبار
المسلمين في لحظات، فيعيش بذلك همومهم وينفعل بقضاياهم، وعبر الهاتف يمكنه الاتصال
بالأرحام والاطمئنان على صحة المرضى منهم وإدخال السرور عليهم. وحين يمر بالطريق
يلقى تحية الإسلام ويميط الأذى وينهى عن الفحشاء ويأمر بين ذلك بالمعروف كل ذلك في
دقيقة زمنية واحدة، ولا يكلفه ذلك عناء أو مشقة، ولا يلزمه طهارة أو دخول المسجد،
بل في مكانه وعلى حالته ينال أعظم أسباب السعادة عن طريق استثمار دقائق حياته
واغتنام أوقاته.
0 التعليقات:
إرسال تعليق